الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مدنية بإجماع، وهي تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية. "روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة" عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} اختلف في هذا الفتح ما هو؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس }إنا فتحنا لك فتحا مبينا}قال: الحديبية. وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. وقال الفراء: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا نعد مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر. وقال الضحاك}إنا فتحنا لك فتحا مبينا}بغير قتال. وكان الصلح من الفتح. وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال: كان فتح الحديبية آية عظيمة، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا} قال ابن الأنباري}فتحا مبينا}غير تام، لأن قوله}ليغفر لك الله ما تقدم}متعلق بالفتح. كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة. وقال أبو حاتم السجستاني: هي لام القسم. وهذا خطأ، لأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب. قوله تعالى}ويتم نعمته عليك}قال ابن عباس: في الجنة. وقيل: بالنبوة والحكمة. وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر. وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. }ويهديك صراطا مستقيما}أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. }وينصرك الله نصرا عزيزا}أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل. {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما} قوله تعالى}هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين}}السكينة}: السكون والطمأنينة. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في }البقرة}. }ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}قال ابن عباس: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله}ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. }ولله جنود السماوات والأرض}قال ابن عباس: يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس }وكان الله عليما}بأحوال خلقه }حكيما}فيما يريده. {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما} أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة. وقيل: اللام في }ليدخل}يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله}ليغفر لك الله}}وكان ذلك}أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. }عند الله فوزا عظيما}أي نجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب. وقيل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه }ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ فنزل}ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات}ولما قرأ }ويتم نعمته عليك}قالوا: هنيئا لك، فنزلت {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا، ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما} قوله تعالى}ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات}أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. }الظانين بالله ظن السوء}يعني ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا} قوله تعالى}إنا أرسلناك شاهدا}قال قتادة: على أمتك بالبلاغ. وقيل: شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية. وقيل: مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم. وقيل: شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في }النساء}عن سعيد بن جبير هذا المعنى مبينا. }ومبشرا}لمن أطاعه بالجنة. }ونذيرا}من النار لمن عصى، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في }البقرة}اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما. وانتصب }شاهدا ومبشرا ونذيرا}على الحال المقدرة. حكى سيبويه: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، فالمعنى: إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول: رأيت عمرا قائما غدا. قوله تعالى}لتؤمنوا بالله ورسوله}قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو }ليؤمنوا}بالياء، وكذلك }يعزروه ويوقروه ويسبحوه}كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده، فأما قبله فقوله}ليدخل}وأما بعده فقوله وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه. }وتوقروه}أي تسودوه، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ }وتسبحوه}أي تسبحوا الله }بكرة وأصيلا}أي عشيا. وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل }تعزروه وتوقروه}أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو }وتسبحوه}من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وهو }وتعزروه وتوقروه}أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي }تسبحوه}وجهان: تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني: هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. }بكرة وأصيلا}أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول فيه. وقال الشاعر: الآية رقم ( 10 ) {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} قوله تعالى}إن الذين يبايعونك}بالحديبية يا محمد. }إنما يبايعون الله}بين أن بيعتهم لنبيه إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا} قوله تعالى}سيقول لك المخلفون من الأعراب}قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال}المخلفون}لأن الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في }التوبة}. }شغلتنا أموالنا وأهلونا}أي ليس لنا من يقوم بهما. }فاستغفر لنا}جاؤوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله}يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}وهذا هو النفاق المحض. قوله تعالى}قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا}قرأ حمزة والكسائي }ضرا}بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس: الهزيمة. الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف. }أو أراد بكم نفعا}أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع. {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} قوله تعالى}بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا}وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. }وزين ذلك}أي النفاق. }في قلوبكم}وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. }وظننتم ظن السوء}أن الله لا ينصر رسوله. }وكنتم قوما بورا}أي هلكى، قاله مجاهد. وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبدالله بن الزبعرى السهمي: وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى}وكنتم قوما بورا}وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل}بورا}أشرارا، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت: أي الهالك. {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا} وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق. {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما} أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى. {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} قوله تعالى}سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها}يعني مغانم خيبر، لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبدالله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. }ذرونا نتبعكم}أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره، لا يقال: وذره ولا واذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. }يريدون أن يبدلوا كلام الله}أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى قوله تعالى}كذلكم قال الله من قبل}أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. }فسيقولون بل تحسدوننا}أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، [إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم]. فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى}فسيقولون بل تحسدوننا}فقال الله تعالى}بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا}يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال. {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما} قوله تعالى}قل للمخلفين من الأعراب}أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية. }ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد}قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس. وقال كعب والحسن وعبدالرحمن بن أبي ليلى: الروم. وعن الحسن أيضا: فارس والروم. وقال ابن جبير: هوازن وثقيف. وقال عكرمة: هوازن. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى }ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد}فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده. في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه قال}لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا}فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين. أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. والله أعلم. قوله تعالى}تقاتلونهم أو يسلمون}هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على }تقاتلونهم}أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وفي حرف أُبي }أو يسلموا}بمعنى حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، أي حتى تشبع. قال: وقال الزجاج: قال }أو يسلمون}لأن المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب. }فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا}الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. }وإن تتولوا كما توليتم من قبل}عام الحديبية. }يعذبكم عذابا أليما}وهو عذاب النار. {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما} قال ابن عباس: لما نزلت}وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما}قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت }ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في }التوبة}وغيرها الكلام فيه مبينا. والعرج: آفة تعرض لرجل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر. وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل. }ومن يطع الله ورسوله}فيما أمره. }يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار}قرأ نافع وابن عامر }ندخله}بالنون على التعظيم. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا. }ومن يتول يعذبه عذابا أليما}. {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} قوله تعالى}لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذا خبر الحديبية على اختصار: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الهدي، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى (كراع الغميم) فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو (بعسفان) وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس: خلأت خلأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها). ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك، فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء حتى كفى جميع الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب، ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه عل أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك، فإذا كان من قابِلٍ أتى معتمِرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قِربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه (اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه) فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد فلا بد أن تكتب: باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح: (امح يا علي، واكتب باسمك اللهم) فأبى علي أن يمحو بيده }محمد رسول الله}. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعرضه علي) فأشار إليه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأمره أن يكتب (من محمد بن عبدالله). وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأكثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أبا جندل (أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت وعنه أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبدالله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة. وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة. وعن عبدالله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وعن البراء بن عازب قال: كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (امحه). فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح. قلت لأبي إسحاق وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل بن عمرو: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. فقال: (اكتب من محمد رسول الله) قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب من محمد بن عبدالله) فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا قال: (نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا). وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان ببن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال (بلى) قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال (بلى) قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا) قال: فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال (نعم). فطابت نفسه ورجع. قوله تعالى}فعلم ما في قلوبهم}من الصدق والوفاء، قاله الفراء. وقال ابن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا. وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت }فأنزل السكينة عليهم}حتى بايعوا. وقيل}فعلم ما في قلوبهم}من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك رؤيا منام). وقال الصديق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. }وأثابهم فتحا قريبا}قال قتادة وابن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرئ }وآتاهم}}ومغانم كثيرة يأخذونها}يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. فـ }مغانم}على هذا بدل من }فتحا قريبا}والواو مقحمة. وقيل }ومغانم}فارس والروم. {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما} قوله تعالى}وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها}قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وقال ابن زيد: هي مغانم خيبر. }فعجل لكم هذه}أي خيبر، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: عجل لكم صلح الحديبية. }وكف أيدي الناس عنكم}يعني أهل مكة، كفهم عنكم بالصلح. وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري، لأن كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا} قوله تعالى}وأخرى}}أخرى}معطوفة على }هذه}، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى. }لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها}قال ابن عباس: هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، كأرض فارس والروم، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة: هو فتح مكة. وقال عكرمة: حنين، لأنه قال}لم تقدروا عليها}. وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة، قال القشيري. وقال مجاهد: هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى }قد أحاط الله بها}: أي أعدها لكم. فهي كالشيء الذي قد أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل}أحاط الله بها}علم أنها ستكون لكم، كسا قال {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} قوله تعالى}ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار}قال قتادة: يعني كفار قريش في الحديبية. وقيل}ولو قاتلكم}غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، لكانت الدائرة عليهم. }ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل}يعني طريقة الله وعاداته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب }سنة}على المصدر. وقيل}سنة الله}أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال: والسنة أيضا: ضرب من تمر المدينة. }ولن تجد لسنة الله تبديلا}. {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} قوله تعالى}وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة}وهي الحديبية. }من بعد أن أظفركم عليهم}روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى}وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}. قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. و {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} قوله تعالى}هم الذين كفروا}يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده. }والهدي معكوفا}أي محبوسا. وقيل موقوفا. وقال أبو عمرو بن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى}والهدي معكوفا}، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. }أن يبلغ محله}أي منحره، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل بكسر الحاء: غاية الشيء. وبالفتح: هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في }البقرة}عند قوله تعالى}فإن أحصرتم}والصحيح ما ذكرناه. قوله تعالى}والهدي}والهَديُ والهَدِيّ لغتان. وقرئ قوله تعالى}ولولا رجال مؤمنون}يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمه بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل، وأشباههم. }لم تعلموهم}أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. }أن تطؤوهم}بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و}أن}يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في }تعلموهم}، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. }لم تعلموهم}نعت لـ }رجال}و}نساء}. وجواب }لولا}محذوف، والتقدير: ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكثم إيمانه. وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم. قوله تعالى}فتصيبكم منهم معرة}المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله قوله تعالى}ليدخل الله في رحمته من يشاء}اللام في }ليدخل}متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالإيمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته. قوله تعالى}لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}أي تميزوا، قاله القتبي. وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي. وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم: أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة}لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}. وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال}ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم}وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم. قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم. قراءة العامة }لو تزيلوا}إلا أبا حيوة فإنه قرأ }تزايلوا}وهو مثل }تزيلوا}في المعنى. والتزايل: التباين. و}تزيلوا}تفعلوا، من زلت. وقيل: هي تفيعلوا. }لعذبنا الذين كفروا}قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما}لولا رجال}والثاني}لو تزيلوا}. وقيل جواب }لولا}محذوف، وقد تقدم. }ولو تزيلوا}ابتداء كلام. {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما} قوله تعالى}إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية}العامل في }إذ}قوله تعالى}لعذبنا}أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. }الحمية}فعيلة وهي الأنفة. يقال: حميت عن كذا حمية بالتشديد ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس: أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم. وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل}حمية الجاهلية}إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. }فأنزل الله سكينته}أي الطمأنينة والوقار. }على رسوله وعلى المؤمنين}وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية. قوله تعالى}وألزمهم كلمة التقوى}قيل: لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقال عطاء الخرساني، وزاد }محمد رسول الله}. وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و}كلمة التقوى}هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن }كلمة التقوى}الإخلاص. }وكانوا أحق بها وأهلها}أي أحق بها من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. }وكان الله بكل شيء عليما}. {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا} قوله تعالى}لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى}لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. }لتدخلن}أي في العام القابل }المسجد الحرام إن شاء الله}قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسول أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى قوله تعالى}فجعل من دون ذلك فتحا قريبا}أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، قال ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف. {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} قوله تعالى}هو الذي أرسل رسوله}يعني محمدا صلى الله عليه وسلم }ليظهره على الدين كله}أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل: أي ليظهر رسول على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه. }وكفى بالله شهيدا}}شهيدا}نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل}شهيدا}على ما أرسل به، لأن الكفار أبوا أن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} قوله تعالى}محمد رسول الله}}محمد}مبتدأ و}رسول}خبره. وقيل}محمد}ابتداء و}رسول الله}نعته. }والذين معه}عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده؛ فلا يوقف على هذا التقدير على }رسول الله}. وعلى الأول يوقف على }رسول الله}؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه؛ فيكون }محمد}ابتداء و}رسول الله}الخبر }والذين معه}ابتداء ثان. و}أشداء}خبره و}رحماء}خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه. وقيل: المراد بـ }الذين معه}جميع المؤمنين. }أشداء على الكفار}قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار؛ أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. }رحماء بينهم}أي يرحم بعضهم بعضا. وقيل: متعاطفون متوادون. وقرأ الحسن }أشداء على الكفار رحماء بينهم}بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. }تراهم ركعا سجدا}إخبار عن كثرة صلاتهم. }يبتغون فضلا من الله ورضوانا}أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى. قوله تعالى}سيماهم في وجوههم من أثر السجود}السيما العلامة، وفيها لغتان: المد والقصر، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر. قوله تعالى}ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}قال الفراء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على }الإنجيل}وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء فقال: ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل، فيوقف على هذا على }التوراة}. وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على }التوراة}على هذا، ويوقف على }الإنجيل}، ويبتدئ}كزرع أخرج شطأه}على معنى وهم كزرع. و}شطأه}يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الأخفش في قوله}أخرج شطأه}أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر: الزجاج: أخرج شطأه أي نباته. وقيل: إن الشطء شوك السنبل، والعرب أيضا تسميه: السفا، وهو شوك البهمى، قاله قطرب. وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قال الفراء، حكاه الماوردي. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان }شطأه}بفتح الطاء، وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب }شطاه}مثل عصاه. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق }شطه}بغير همز، وكلها لغات فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان. وقال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. }فآزره}أي قواه وأعانه وشده، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة }آزره}بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس }فأزره}مقصورة، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس: {فاستغلظ فاستوى على سوقه}على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق: جمع الساق. }يعجب الزراع}أي يعجب هذا الزرع زراعه. وهو مثل كما بينا، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطء أصحابه، كانوا قليلا فكثروا، وضعفاء فقووا، قال الضحاك وغيره. }ليغيظ بهم الكفار}اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار. قوله تعالى}وعد الله الذين آمنوا}أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. و}من}في قوله}منهم}مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى أراد من ناحية أم أوفى دمنة، أم من منازلها دمنة. وقال الآخر: فـ }من}لم تبعض شيئا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر. والنوفل: الكثير العطاء. والزفر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس. روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية }محمد رسول الله والذين معه}حتى بلغ }يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}. فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر. قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين، قال الله تعالى}محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}الآية. وقال وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا: قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى}مغفرة وأجرا عظيما}. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة }الحجرات}مبينة إن شاء الله تعالى.
|